/ الفَائِدَةُ : (132) /
29/11/2025
بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على محمد واله الطاهرين ، واللَّعنة الدَّائمة على أَعدائهم اجمعين. / أَنواع الإِحاطة/ يَنْبَغِي الْاِلْتِفَات : أَنَّ الإِحاطة على أَنحاء ثلاثة : أَحدها : الإِحاطة الماديَّة الجغرافيَّة . وهذه تُحيط بالسطح والظاهر فقط . ومجالها : إِذا كان المُحيط من عَالَم الأَجسام الغليظة . مثالها : إِحاطة الكرة الكبيرة بالكرة الصغيرة. وهذا النحو وإِن عُدَّ نحو من أَنحاء الإِحاطة في عِلْمِ الرياضيِّات وعِلْمِ الهندسة ، لكنَّه بالدِّقَّة العقليَّة فيه مسامحة ظاهرة. ومنه يتَّضح : أَنَّ الدِّقَّة العقليَّة تفوق الدِّقَّة في عِلْمِ الرياضيَّات وعِلْمِ الهندسة ؛ لإِعتمادهما على قوَّة الخيال ، بخلاف الدِّقَّة العقليَّة ؛ فإِنَّها أَشرس من دون قياس من الدِّقَّة في عِلْمِ الرياضيَّات وعِلْمِ الهندسة ؛ لإِعتمادها على قوَّة العقل . والفارق بين القوَّتين عظيم وشاسع جِدّاً ، بل من دون قياس أَيضاً ؛ فإِنَّ العقل عين مُسَلَّحَة أَشرس من عين قوَّة الخيال بمراتب غيرمتناهية. وهذه نُكْتَةٌ نفيسةٌ تأتي في أَبواب المعارف . ثانيها : الإِحاطة الماديَّة غير الجغرافيَّة . وهذه تُحيط بالظَّاهر والباطن ، لكنَّها تبقىٰ ماديَّة وجسمانيَّة ولها مقدار. ومجالها : إِذا كان المُحيط من عَالَم المادَّة وعَالَم الأَجسام اللطيفة. مثالها : إِحاطة الأَشعَّة البنفسجيَّة أَو الحمراء أَو فوقها أَو تحتها بالأَجسام الأَغلظ. ثالثها : الإِحاطة التجرُّديَّة ، وهذه إِحاطة وجوديَّة ، تكون فيها للمُحيط هيمنة وإِحاطة وقدرة أَعظم وجوداً وكمالاً من هيمنة وإِحاطة وقدرة ووجود وكمال المُحاط. ومجالها : إِذا لم يكن المُحيط من عَالَم المادَّة والأَجسام ، وإِنَّما كان من عَالَم المُجرَّدات تجرُّداً تامّاً ـ كـ : الذَّات الإِلٰهيَّة الأَزليَّة المُقدَّسة ، وعَالَم الأَسمآء والصِّفات الإِلٰهيَّة ؛ طبقات حقائق أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الصَّاعدة ـ ، فتكون نِسْبَة المُحيط إِلى جملة المُحاط ظاهره وباطنه نِسْبَة واحدة. نظيره : نقطة مركز الدائرة بلحاظ جميع نقاط محورها(1) ؛ فإِنَّ نسبتها إِلى الجميع واحدة ؛ من دون أَيّ تبعُّضٍ وتفاوتٍ. مثالها : ما تُشِير إِليه بيانات الوحي ، منها : أَوَّلاً : بيان قوله ( جَلَّ ثناؤه) : [ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ] (2). أَي : أَنَّ قربه وقدرته وسيطرته وهيمنته على جملة المخلوقات واحدة ، لا تتبعَّض ولا تتفاوت ، فهو سبحانه وتعالىٰ : [ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ] (3). إِذنْ : نِسْبَة المخلوقات بالنِّسْبَة إِليه (جلَّ ذكره) تتوحَّد ، فلا يغيب شيء عنه ؛ فجملة العوالم وكافَّة المخلوقات غيرالمتناهية في حضور واحدٍ لديه. وهذا ما تُشِير إِليه بيانات الوحي الأُخرىٰ ، منها : 1ـ بيان الإِمام الصَّادق صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ؛ فإِنَّه سُئل : « عن قوله اللَّـه (عزَّ وجلَّ) : [ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ]، فقال : استوىٰ من كُلِّ شيء ، فليس شيء أَقرب منه من شيء »(4). 2ـ بيان الإِمام الكاظم صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، عن يعقوب بن جعفر الجعفري ، قال : « ذُكر عنده قوم زعموا أَنَّ اللَّـه تبارك وتعالىٰ ينزل إِلى السَّماء الدُّنيا ، فقال : إِنَّ اللَّـه لا ينزل ولا يحتاج إِلى أَنْ ينزل ، إِنَّما منظره في القرب والبُعد سوآء ، لم يبعد منه قريب ، ولم يقرب منه بعيد ، ولم يحتج إلى شيءٍ ، بل يُحتاج إِليه ... »(5). 3ـ بيانه صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيضاً ، عن القاسم بن يحيىٰ ، عن جدِّه الحسن ، قال : « وسُئِلَ عن معنىٰ قول اللَّـه : [ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ] ، قال : استولىٰ على ما دقَّ وجلَّ »(6). ثانياً : بيان قوله جلَّ قوله : [ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ] (7). ومعناه : أَنَّه (تَقَدَّسَ ذِكْرُهُ) لا يحدّه ولا يحبسه مكان ولا زمان. ثالثاً : بيان قوله عزَّ من قائل : [ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا ] (8). ودلالته قد اِتَّضحت. وبالجملة : النِّسْبَة بين الشيء الواحد والأَشياء الكثيرة إِنْ كانت واحدة ولم تختلف فالإِحاطة منه لها تجرُّديَّة ، وإِلَّا فماديَّة. إِذنْ : في عَالَم المُجرَّدات تجرُّداً تامّاً ـ كـ : طبقات حقائق أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الصَّاعدة ـ لا توجد أَبداً نِسب مُتكثِّرة ، وإِنَّما نِسبة فاردة. ومن ثَمَّ تكون حقيقة ذات الإِمام من أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ داخلة في جملة حقائق ذوات المخلوقات وفي طُرِّ العوالم ومحيطة بها ، ومهيمنة عليها ، وأَقرب إِليها من حبل وريدها ، لكن لا بالمزاولة والممازجة ، وخارجة عنها ، لكن لا بالمزايلة والمفارقة ، وحينئذٍ يعلم صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ظواهر المخلوقات وبواطن بواطنها ، وسرّها وخفيّها ، ولا يخفىٰ عليه من شؤونها وشؤون عوالمها شيء ولو كان بمقدار حبَّةٍ من خردل ، من بداية الخلقة إِلى مالا نهاية ، في هذه النَّشْأة وفي كُلِّ النَّشَآت. وإِلى هذا أَشارت بيانات الوحي ، منها : بيان زيارتهم صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِم : « ... ذكركم في الذَّاكرين ، وَأَسماؤكم في الأَسمآء ، وَأَجسادكم في الأَجساد ، وَأَرواحكم في الأَرواح ، وَأَنفسكم في النُّفوس ، وآثاركم في الآثار ، وقبوركم في القبور ، فما أَحلى أَسماءكم ، وَأَكرم أَنفسكم ، وَأَعظم شأنكم ، وَأَجِلّ خطركم ...»(9). مضافاً : أَنَّ من تلك الشؤون والصِّفات والأَسمآء الإِلٰهيَّة المُتَّصف بها الباري ـ المُسَمَّىٰ ـ (جَلَّ وعلا) أَنَّه : (يعلم المخزون المكنون المجزوم المكتوم) ، كذلك حال طبقات حقائق ذوات أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الصَّاعدة ، وتتبعها طبقات حقائق ذواتهم (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِم) المتوسِّطة والنَّازلة ، فيعلم الإِمام من آل محمَّد صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِم من خلالها : (الْعِلْم الإِلٰهيّ المخزون المكنون المجزوم المكتوم الَّذي لم يطَّلع عليه ملك مُقَرَّب ولا نبيّ مرسل). وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ الأَطْهَارِ . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) مرجع الضمير : (الدائرة). (2) طه : 5. (3) الإخلاص : 3. (4) بحار الأَنوار ، 55 : 7/ح5. (5) المصدر نفسه ، 3 : 311/ح5. (6) المصدر نفسه ، 3 : 336/ح45. أُصول الكافي ، 1/باب : معاني الأَسماء واشتقاقها : 80/ح3. (7) فصلت : 54. (8) النساء : 126. (9) بحار الأَنوار ، 99 : 132